فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فصل:
وفائدة الاستثناء أن يخرج الحالف من الكذب إِذا لم يفعل ما حلف عليه، كقوله في قصة موسى: {ستجدني إِن شاء الله صابرًا} [الكهف: 70]، ولم يصبر، فسَلِم من الكذب لوجود الاستثناء في حقه.
ولا تختلف الرواية عن أحمد أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق والعتاق، وأنه إِذا قال: أنتِ طالق إِن شاء الله، وأنتَ حُرٌّ إِن شاء الله، أن ذلك يقع، وهو قول مالك؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يقع شيء من ذلك.
وأما اليمين بالله تعالى؛ فإن الاستثناء فيها يصح، بخلاف الطلاق، وكذلك الاستثناء في كل ما يكفِّر، كالظهار، والنذر، لأن الطلاق والعتاق لفظه لفظ إِيقاع، وإِذا علَّق به المشيئة، علمنا وجودها، لوجود لفظ الإِيقاع من جهته، بخلاف سائر الأيمان، لأنها ليست بموجبات للحكم، وإِنما تتعلق بأفعال مستقبلة.
وقد اختُلف في الوقت الذي يصح فيه الاستثناء على ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه لا يصح الاستثناء إِلا موصولًا بالكلام، وقد روي عن أحمد نحو هذا، وبه قال أكثر الفقهاء.
والثاني: أنه يصح ما دام في المجلس، قاله الحسن وطاووس، وعن أحمد نحوه.
والثالث: أنه لو استثنى بعد سنة، جاز، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد ابن جبير، وأبو العالية.
وقال ابن جرير الطبري: الصواب للإنسان أن يستثني ولو بعد حنثه في يمينه، فيقول: إِن شاء الله، ليخرج بذلك مما ألزمه اللهُ في هذه الآية، فيسقط عنه الحرج، فأما الكفَّارة فلا تسقط عنه بحال، إِلا أن يكون الاستثناء موصولًا بيمينه، ومن قال: له ثُنْياه ولو بعد سنة، أراد سقوطَ الحرج الذي يلزمه بترك الاسثتناء دون الكفَّارة.
قوله تعالى: {وقل عسى أن يهديَني ربِّي} قرأ نافع، وأبو عمرو: {يهديَني ربِّي} بياء في الوصل دون الوقف.
وقرأ ابن كثير بياء في الحالين.
وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي بغير ياء في الحالين.
وفي معنى الكلام قولان.
أحدهما: عسى أن يعطيني ربِّي من الآيات والدلالات على النبوَّه ما يكون أقرب في الرّشد وأدلَّ من قصّة أصحاب الكهف، ففعل الله له ذلك، وآتاه من عِلْم غيوب المرسَلين ما هو أوضح في الحُجَّة وأقرب إِلى الرَّشد من خبر أصحاب الكهف، هذا قول الزجاج.
والثاني: أن قريشًا لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم خبر أصحاب الكهف، قال: «غدًا أُخبركم» كما شرحنا في سبب نزول الآية، فقال الله تعالى له: {وقل عسى أن يهديني ربي} أي: عسى أن يعرِّفني جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حدَّدتُه لكم، ويعجِّل لي من جهته الرشاد، هذا قول ابن الأنباري. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ}.
الضمير في {سيقولون} يراد به أهل التوراة ومعاصري محمد صلى الله عليه وسلم.
وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص.
وقيل: المراد به النصارى؛ فإن قومًا منهم حضروا النبيّ صلى الله عليه وسلم من نجران فجرى ذكر أصحاب الكهف فقالت اليعقوبيّة: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم.
وقالت النسطورية: كانوا خمسة سادسهم كلبهم.
وقال المسلمون: كانوا سبعة ثامنهم كلبهم.
وقيل: هو إخبار عن اليهود الذين أمروا المشركين بمسألة النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف.
والواو في قوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} طريق النحويين أنها واو عطف دخلت في آخر إخبار عن عددهم؛ لتفصّل أمرهم، وتدلّ على أن هذا غاية ما قيل ولو سقطت لصح الكلام.
وقالت فرقة منها ابن خالويه: هي واو الثمانية.
وحكى الثعلبيّ عن أبي بكر بن عيّاش أن قريشًا كانت تقول في عددها ستة سبعة وثمانية؛ فتدخل الواو في الثمانية.
وحكى نحوه القفّال، فقال: إن قوما قالوا العدد ينتهي عند العرب إلى سبعة، فإذا احتيج إلى الزيادة عليها استؤنف خبر آخر بإدخال الواو، كقوله: {التائبون العابدون} [التوبة: 112] ثم قال: {والناهون عَنِ المنكر والحافظون} [التوبة: 112] يدلّ عليه أنه لما ذكر أبواب جهنم {حتى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] بلا واو، ولما ذكر الجنة قال: {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] بالواو.
وقال: {خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} ثم قال: {وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5] فالسبعة نهاية العدد عندهم كالعشرة الآن عندنا.
قال القشيري أبو نصر: ومثل هذا الكلام تحكُّم، ومن أين السبعة نهاية عندهما ثم هو منقوض بقوله تعالى: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر} [الحشر: 23] ولم يذكر الاسم الثامن بالواو.
وقال قوم ممن صار إلى أن عددهم سبعة: إنما ذكر الواو في قوله: {سبعة وثامنهم} لينبّه على أن هذا العدد هو الحق، وأنه مباين للأعداد الأخر التي قال فيها أهل الكتاب؛ ولهذا قال تعالى في الجملتين المتقدمتين {رجمًا بالغيب} ولم يذكره في الجملة الثالثة ولم يقدح فيها بشيء؛ فكأنه قال لنبيّه هم سبعة وثامنهم كلبهم.
والرجم: القول بالظن؛ يقال لكل ما يُخرص: رجم فيه ومرجوم ومرجم؛ كما قال:
وما الحرب إلا ما علمتم وذُقْتُمُ ** وما هو عنها بالحديث المُرَجَّم

قلت: قد ذكر الماوردي والغزنوي: وقال ابن جريج ومحمد بن إسحاق كانوا ثمانية، وجعلا قوله تعالى: {وثامنهم كلبهم} أي صاحب كلبهم.
وهذا مما يقوّي طريق النحويين في الواو، وأنها كما قالوا.
وقال القشيريّ: لم يذكر الواو في قوله: رابعهم سادسهم، ولو كان بالعكس لكان جائزًا، فطلب الحكمة والعلة في مثل هذه الواو تكلّف بعيد، وهو كقوله في موضع آخر {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4].
وفي موضع آخر: {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذكرى} [الشعراء: 208-209].
قوله تعالى: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} أمر الله تعالى نبيّه عليه السلام في هذه الآية أن يردّ علم عدّتهم إليه عز وجل.
ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل.
والمراد به قوم من أهل الكتاب؛ في قول عطاء.
وكان ابن عباس يقول: أنا من ذلك القليل، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، ثم ذكر السبعة بأسمائهم، والكلب اسمه قطمير كلب أنمر، فوق القَلَطيّ ودون الكرديّ.
وقال محمد بن سعيد بن المسيّب: هو كلب صيني.
والصحيح أنه زبيري.
وقال: ما بقي بنيسابور محدّث إلا كتب عني هذا الحديث إلا من لم يقدر له.
قال: وكتبه أبو عمرو الحيريّ عني.
قوله تعالى: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا} أي لا تجادل في أصحاب الكهف إلا بما أوحيناه إليك؛ وهو ردّ علم عدتهم إلى الله تعالى.
وقيل: معنى المراء الظاهر أن تقول: ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا تحتج على أمر مقدّر في ذلك.
وفي هذا دليل على أن الله تعالى لم يبيّن لأحد عددهم فلهذا قال: {إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا} أي ذاهبًا؛ كما قال:
وتلك شَكَاةٌ ظاهرٌ عنك عارُها

ولم يبح له في هذه الآية أن يماري؛ ولكن قوله: {إلاّ مراءً} استعارة من حيث يماريه أهل الكتاب.
سميت مراجعته لهم مراء ثم قيد بأنه ظاهر؛ ففارق المراء الحقيقي المذموم.
والضمير في قوله: {فيهم} عائد على أهل الكهف.
وفي قوله: {منهم} عائد على أهل الكتاب المعارضين.
وقوله: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ} يعني في عدتهم؛ وحذفت العدّة لدلالة ظاهر القول عليها.
قوله تعالى: {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَدًا} روي أنه عليه السلام سأل نصارى نجران عنهم فنهي عن السؤال.
وفي هذا دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم.
قوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} فيه مسألتان:
الأولى: قال العلماء: عاتب الله تعالى نبيّه عليه السلام على قوله للكفار حين سألوه عن الروح والفتية وذي القرنين: غدًا أخبركم بجواب أسئلتكم؛ ولم يستثن في ذلك.
فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يومًا حتى شقّ ذلك عليه وأرجف الكفار به، فنزلت عليه هذه السورة مفرّجة.
وأمر في هذه الآية ألا يقول في أمر من الأمور إني أفعل غدا كذا وكذا، إلاّ أن يعلق ذلك بمشيئة الله عز وجل حتى لا يكون محقّقًا لحكم الخبر؛ فإنه إذا قال: لأفعلن ذلك ولم يفعل كان كاذبًا، وإذا قال لأفعلن ذلك إن شاء الله خرج عن أن يكون محقّقًا للمخبر عنه.
واللام في قوله: {لشيء} بمنزلة في، أو كأنه قال لأجل شيء.
الثانية: قال ابن عطية: وتكلّم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين، والآية ليست في الأيمان وإنما هي في سُنّة الاستثناء في غير اليمين.
وقوله: {إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ويحسّنه الإيجاز؛ تقديره: إلا أن تقول إلا أن يشاء الله؛ أو إلا أن تقول إن شاء الله.
فالمعنى: إلا أن تذكر مشيئة الله؛ فليس {إلا أن يشاء الله} من القول الذي نُهي عنه.
قلت: ما اختاره ابن عطية وارتضاه هو قول الكسائيّ والفرّاء والأخفش.
وقال البصريون: المعنى إلا بمشيئة الله.
فإذا قال الإنسان أنا أفعل هذا إن شاء الله فمعناه بمشيئة الله.
قال ابن عطية: وقالت فرقة {إلا أن يشاء الله} استثناء من قوله: {ولا تقولنّ} قال: وهذا قول حكاه الطبري وردّ عليه، وهو من الفساد بحيث كان الواجب ألا يُحكَى.
وقد تقدّم القول في الاستثناء في اليمين وحكمه في المائدة.
قوله تعالى: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} فيه مسألة واحدة، وهو الأمر بالذكر بعد النسيان واختلف في الذكر المأمور به؛ فقيل: هو قوله: {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا}.
قال محمد الكوفي المفسر: إنها بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن، وإنها كفارة لنسيان الاستثناء.
وقال الجمهور: هو دعاء مأمور به دون هذا التخصيص.
وقيل: هو قوله: {إن شاء الله} الذي كان نسيه عند يمينه.
حكي عن ابن عباس أنه إن نسي الاستثناء ثم ذكر ولو بعد سنة لم يحنث إن كان حالفًا.
وهو قول مجاهد.
وحكى إسماعيل بن إسحاق ذلك عن أبي العالية في قوله تعالى: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} قال: يستثني إذا ذكره.
الحسن: ما دام في مجلس الذكر.
ابن عباس: سنتين؛ ذكره الغزنويّ قال: فيحمل على تدارك التبرك بالاستثناء للتخلّص عن الإثم.
فأما الاستثناء المفيد حكمًا فلا يصح إلا متصلًا.
السُّدّي: أي كل صلاة نسيها إذا ذكرها.
وقيل: استثن باسمه لئلا تنسى.
وقيل اذكره متى ما نسيته.
وقيل: إذا نسيت شيئًا فاذكره يذكّركه.
وقيل: اذكره إذا نسيت غيره أو نسيت نفسك؛ فذلك حقيقة الذكر.
وهذه الآية مخاطبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي استفتاح كلام على الأصح، وليست من الاستثناء في اليمين بشيء، وهي بعد تعمّ جميع أمته؛ لأنه حكم يتردّد في الناس لكثرة وقوعه. والله الموفق. اهـ.

.قال أبو حيان:

{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ}.
والظاهر أن الضمير في {سيقولون} عائد على من تقدم ذكرهم وهم المتنازعون في حديثهم قبل ظهورهم عليهم، فأخبر تعالى نبيه بما كان من اختلاف قومهم في عددهم وكون الضمير عائدًا على ما قلنا ذكره الماوردي.
وقيل: يعود على نصارى نجران تناظروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في عددهم.